كانت بغداد تتلفع بالدخان وهيمالايا تتوشح بالسحب.. الرحلة كوثيقة لا كنص سردي

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
01/06/2012 06:00 AM
GMT



(1)

الرحلة حكاية.
كل رحلة هي حكاية. وكل حكاية لها ثوابت وقوانين فنية تضبط إيقاعها العام. وما من حكاية تبدأ إلا وتنتهي. فقد تكون النهاية كالقفل الصارم، وما من تأويل يستدرج القارئ وراءها. ولكن قد تكون النهاية مفتوحة تنطوي على احتمالات وتفسيرات ورؤى مختلفة. وهذا شأن المرويات الحكائية والقصصية والروائية أيضاً. ولا تختلف الرحلة عن هذا التوصيف بوصفها نصاً مقروءاً اكتسب درجته القطعية الفنية، وانتهى إلى كيان مطبوع نسميه الكتاب.
يتأسس من هذا أن الرحلة نص. تحول من سفر شخصي إلى كيان نصي له مواصفات النص الحكائي أو القصصي. وتحول المؤلف من رحّالة مسافر إلى تجربة نصية قابلة للجدل الفني والمعرفي، وبالتالي فأدب الرحلات الذي لم تقع عليه عينُ النقد كثيراً، إضافة فنية إلى النصوص الحكائية والقصصية، وفي هذا المعنى يمكن استخلاص هذا النوع الأدبي، المنسحب من الحياة الثقافية والأدبية، عبر نصوصه العربية القديمة التي أثْرت المكتبة العربية وبقي صرحها يشير إلى النوع الثقافي السائد في فترات مختلفة من الحياة العربية والإسلامية، وهو القادم إلينا بأسماء رائدة غنية عن التعريف في تاريخ الثقافة العربية وجغرافية السفر بوسائله البسيطة المتاحة آنذاك.
هذا منظور قد يكون فنياً إلى درجة معينة. لكنه واقعي إلى درجة معينة. فالرحلة؛ اقتراباً من هذا الفهم؛ تتوفر على صرح بنائي يخص مفرداتها وعلاقتها فيما بينها من مكونات وعناصر مختلفة، لغة ً وأفكاراً ومعانيَ ورؤى ومعارفَ وعلوماً، ومن ثم طريقة البناء الحكائي أو القصصي أو الروائي وربما الشعري حتى. والذي يُنتج أخيراً نص الرحلة بطبعته الأخيرة. ومن خلالها إنشاء النص الإبداعي، ولا يمكن لأي كاتب أن يضع خطة رياضية لينتج عبرها روايته أو قصته أو قصيدته أو نصه بالإجمال، بل الدارج هو وضع خطة عامة من خلال ثيمة أو لقطة أو صورة أو فكرة عامة لإنشاء النص، تتخللها مراحل كتابية قد تخرج عن الخطة الأساسية إلى مضان غير محسوبة في أساسيات الخطة، ليكون النص عرضة لتقلبات مناخية في فصوله المختلفة، حتى يستقر بشكله الأخير خارجاً عن تصوراته الأولية وبعيداً ربما عن فكرة انطلاقته. وهذا شأن المبدعين الذين يخوضون غمار الكتابة من أوجهها المختلفة.

(2)
لا يبتعد نص الرحلة عن هذا الوصف العام. ولأقل نص الرحلة المعاصرة تحديداً، فالظرف الفني فيها قد يختلف كثيراً عن نص الرحلة القديمة، نظراً لتطور الأجناس الأدبية واستنبات أفكار كتابية جديدة وشيوع مناهج نقدية حديثة أسهمت إلى حد كبير في بلورة طرائق نصية في الكتابة الجديدة، وبالتالي حررت الكاتب من قيود مفهومة في الكتابة، وأنتجته بضوء استنباط آليات جديدة في كتابة النص الحر الذي خرج من معاطف النقد القديمة إلى فضاءات أكثر انفتاحاً. وبالتالي، وبعد خروج أدب الرحلات من سبات طويل وانتباه النقاد والكتّاب إلى هذا اللون الضائع من حياتنا الأدبية، لا بد أن يتجانس مع الحياة الثقافية العامة من منظورها الفني المتعدد الوجوه ويقيم علاقته مع ظرفه الجديد ويشتغل على آفاق جديدة في الكتابة المعاصرة، لكن بقيمه الموضوعية وأنساغه الاستكشافية التي ينطلق منها في العادة. كما الحكاية التي تُروى لتستكشف هي أيضاً عوالمها السرية ومفاجآتها غير المتوقعة.

(3)
ومن خلال التجربة الشخصية مع أسفار لها نكهة خاصة أعترف أني لم أضع كل هذا في حساباتي عندما سافرت إلى جبال الهيمالايا الهندية ذات صيف من عام 2006 ولا خطر لي أي شيء من هذا الفهم الفني المبسط. بل لم يكن في أجندتي أن أكتب عن هذه الرحلة التي لم أخطط لها بالأساس، إنما جاءت عن طريق المصادفة. وهي مصادفة لها قوتها النفسية ومبررها الخاص.
لكن كيف يمكن للمسافر أو الرحالة أن يخطط لكتاب رحلته! وكيف يكتبه!
وما هي المعايير التي يتبعها في الكتابة؟
وكيف "يحكي" للآخرين حكايته عن المدن التي زارها؟
هل كل رحلة تصلح لأن تُحكى وتُكتب؟! وهل بالضرورة أن نكتب عن المدن التي نزورها؟ وهل المدن كلها تغري بالكتابة؟!
هذه استفهامات استنتجتها بعد رحلتي إلى جبال الهيمالايا الهندية، وبعد أن وضعت كتابي (الهندوس يطرقون باب السماء) وهي استفهامات مطلوبة تماماً حينما نشرع بالرحلة أو الكتابة، وحينما نريد أن نحكي للآخرين حكاية هذه المدينة أو تلك ومشاهداتنا المباشرة عنها. فمثال الهيمالايا أوضح لي أن هناك مدناً استثنائية في العالم. كما أن هناك مدناً هامشية. ومثلها ثمة مدنٌ تقع بين هذا وذاك. وأخرى مدنٌ حديثة جاءت بها حضارة التكنولوجيا الصناعية والهندسة العمرانية. هناك مدن التاريخ التي نستطعم فيها الماضي وشواخصه الأثرية. وهذه مدن أثيرة في العادة تستجلب السياح وهواة التصوير. وهناك مدن الجغرافية التي استوطنتها الطبيعة فجعلت منها مدناً مهيبة الجمال. كما هو الحال في الهيمالايا ذات الأرياف المتعددة والجبال العملاقة والطبيعة التي تبهر الناظرين إليها.

(4)
الرحالة القديم كان وصّافاً ومؤرخاً وناقلاً أميناً لكل ما يراه. فوسائل الترحال والسفر آنذاك كانت تحتم عليه البطء في تنقلاته التي تستغرق شهوراً وأعواماً. لكن الرحالة الحديث وبفضل وسائل النقل الحديثة وشيوع منظومات الاتصالات الأحدث، حجبت عنه الكثير من المشاهدات الميدانية التي يمكن له الاغتناء بها، وقذفت به إلى متون المدن من دون المرور بالهوامش التي ربما تشكّل نسبة لا بأس بها من تشكيل تلك المدن. وهذا جانب من جوانب محنة الكاتب المعاصر الذي ساعدته التكنولوجيا الحديثة أن يختصر المسافات البعيدة، ليكون في قلب المدن مهما نأت في الطبيعة. غير أن هناك طبيعة ما تزال بكراً. حتى ولو مرت بها تكنولوجيا الحداثة، إلا أنها بقيت تحافظ على ملامحها الأولى ودهشتها الأولى، بسبب تكوين الطبيعة الصعب فيها، كما هو الحال مع جبال الهيمالايا العملاقة. لهذا جانبني الحظ إلى حد كبير كي أرى الهوامش الرافدة للمدن والأرياف والقرى الهيمالاياتية المنتشرة على السفوح والوديان والقمم.

(5)
كانت الهيمالايا بالنسبة لي، قبل الرحلة، مفردة مدرسية قرأتها في درس الجغرافية الطفولية. منذ أكثر من ثلاثين عاماً، شأنها شأن مفردات أخرى كانت ثقيلة علينا، غير أنها بقيت عالقة في رأسي لسبب لا أدريه، وكأنها حلم سيأتي في يوم ما ورغبة مؤجلة إلى إشعار آخر؛ فجاءت في وقت حاسم يصعب عليّ تفسيره الآن. لكن عليّ إيضاح ما يمكن إيضاحه في وصف الكتاب الذي جاء كمرثية عراقية، قبل أن يكون ذا طابع سياحي استكشافي يطأ أرضاً بكراً وطبيعة وحشية أقل ما وصف لها أنها خارقة الجمال. ففي عام 2006 الأسود كانت بغداد تحترق برصاص الطائفية. وكانت الهيمالايا تتفتح في كل ثانية منها وردة جديدة. كانت بغداد تتلفع بالدخان. وكانت الهيمالايا تتوشح بالسحب الهابطة التي تلامس الرؤوس. كان الوطن يحترق. وكانت الجبال الهندية تتألق بربيع ماطر وغيوم بيض تدخل حتى جيوب القمصان. ولهذا كان ولدي الصغير يخبئ في جيبه قطعاً من الغيوم الندية وحباتٍ من المطر والكثير الكثير من الرؤى الجامحة، تحسباً لطوارئ الوطن المتقاتل، فلعله يطفئ أية نار صغيرة يجدها في غرفة نومه حينما تأزف ساعة العودة الاضطرارية.
يوم كانت بغداد تحترق بنيران الطائفية السوداء، كانت مدن الهيمالايا وقراها وأريافها وقصباتها تولد من جديد مع كل إشراقة فجر جبلي. ويوم كان بعض السياسيين الطارئين على العراق يوقدون فتيل الفتنة لمزيد من الدماء النازفة بين العراقيين، كانت أنهار الهيمالايا تتدفق بين مياسم الجبال وينابيعها، لتزيد فيها العافية، فثمة آلاف الفلاحين فرشوا أراضيهم الزراعية لمواسم الحنطة والشعير والقمح. فأنهار الهند تتدفق في عروق الرجال والنساء فتكسبهم قوة للانتماء إلى الحاضنة الوطنية وإلى الحياة، لكن أنهارنا غيرت مجاريها واصطبغت بلون الدماء وبات طعمها بطعم الجثث المجهولة التي تسمعون عنها في نشرات الأخبار!
عندما عرفت أن نهر (بيئاس) يشق الجبال طولاً وعرضاً ويرفد القرى والمدن بالحياة النقية، تذكرت أن دجلة تغص به الجثث المجهولة ويغص بها، حتى عافته أسماكه والتجأت إلى أنهار دول الجوار طلباً لمياهٍ أنقى ونهارات لا تعكرها الأحزمة الناسفة!
عندما كان الحواة الهنود يعزفون بناياتهم القصبية طلباً للرزق، كانوا يتمايلون طرباً بأفاعي الكوبرا ويتناغمون مع المعزوفات كأنهم في عرس الأفاعي السامة يؤدون طقوس الموت الأخيرة بجماليات فطرية لا نظير لها، في حين كانت تضج في رأسي مزامير الأعراس العراقية التي تركت ليل العرسان والتجأت إلى نهاراته الدموية، إذ لا سبيل إلى الليل؛ فليالي العراق استوجبت الحراسة واليقظة التامة. كان ليلاً للقنص والمكائد وتصفية الحسابات. وتحولت طقوس الزواج إلى طقوس نهارية. فالعريس العراقي لا يرى عروسه إلا نهاراً وعلى رؤوس الأشهاد. ولا يقبّلها إلا نهاراً وعلى رؤوس الأشهاد. ولا يرى جسدها إلا نهاراً وعلى رؤوس الأشهاد، ولا ينجب منها إلا نهاراً. فالليل كان للميليشيات وعملاء السياسة والغرباء وقطاع الطرق ومروجي الفتن والباعثين على الاشمئزاز.
بهذا الإيجاز أقول هكذا كانت الرحلة إلى الهيمالايا.. قلقاً وألماً. وكان لا بد من كل ذلك أن ينعكس على ما كنت أكتبه من دون قصد. فلم ألتزم بقواعد اللعبة كثيراً، وحاولت خلق فوضى كبيرة داخل هذا النص بالنكتة السياسية اللاذعة. بالمشهد المؤثر. بالسخرية المرّة. باللغة العامية الدارجة بين العراقيين، لأكون قريباً من اللسان العراقي والهاجس العراقي. باستجواب الساسة العراقيين على طريقتي القهرية. بالوصف الجمالي للطبيعة. بالمقارنة بين حرائق بغداد وغيوم الهيمالايا التي لا تغادر سماءها طيلة الفصول الأربعة. بالذكريات. بإرهاصات الغربة الفظيعة التي رافقتني إلى تلك القمم الشاهقة. باستحضار الحضارة الهندية وتجلياتها الدينية الكبيرة. بفحص المجتمع الهندي من خلال الهندوس الرائعين في طقوسهم المختلفة وآلهتهم الذين لهم حظوتهم في المجتمع الهندوسي.

(6)
كتبت الكتاب بهذه الطريقة..
لم ألتزم بأية قاعدة مدرسية أو نقدية. كنتُ أمام حرية واسعة وفضاءات شاسعة لا تنتهي في الكتابة. لم أملكها في كتابة القصة والرواية. حيث الضوابط والمنهجية النقدية والحذر في اللغة والأفكار. كنت سائحاً فوضوياً في الكتاب أكثر من كوني متمسكاً بمنطق فني محدد. وكنت أكتشف تباعاً مع الصفحات أنني قادر على أن أكوّن سياحة جمالية وأخرق المعتاد في الكتابة الممنهجة. لكن بالاستفادة من المعطيات الفنية التي اكتسبتها من كتابة القصة والرواية والقصيدة والنص الجمالي الحر المفتوح.

(7)
كنت أمام محنة السرد المدرسي الذي أخافني كثيراً. تداعت إلي وأنا أهمّ بالكتابة شتى المذاهب السردية. وجدتها كلها تنطوي على محددات، بعضها صارم. وأنا أريد أن أجعل من هذه الرحلة وثيقة وشهادة. لا نصاً يقبع تحت عباءة سردية مقننة لترضي بعض النقاد المتقاعدين.
كنت أقول للنقاد في سريرتي: خذوا السرد لكم وأعطوني وطني.
وبين السرد والوطن اشتبكت وتشابكت الخيوط بين أصابعي، وكان الوطن يسحب شهادتي إليه، فيما يبتعد السرد عنها. لتكون هذه الشهادة مختبراً للكتابة الحرة، من دون التقيد بنظام مدرسي نحسب له حسابات شتى، كي نكون على مقربة من الواقعة الفنية. فالسرد الحديث، كما أحسب، تمرد على الكثير من الأشكال السردية، شاقاً طريقه إلى السرد المعرفي وتقريب الأجناس من بعضها، ودمجها في صورة سردية جديدة، هي خلاصة السرود الفنية المتعارف عليها.

بغداد